كشفت دراسة علمية حديثة عن علاقة غير متوقعة بين الكوارث الطبيعية والأوبئة التاريخية، حيث أظهرت النتائج أن ثوران براكين في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي كان الشرارة الأولى التي مهدت الطريق لانتشار "الموت الأسود" في أوروبا. وأوضحت الدراسة أن التغيرات المناخية الناجمة عن هذا النشاط البركاني تسببت في مجاعة واسعة النطاق، مما أجبر الأوروبيين على استيراد الحبوب من مناطق موبوءة، لينتقل الطاعون عبر السفن التجارية ويفتك بالملايين.
الشتاء البركاني وتغير المناخ في العصور الوسطى
وفقاً للدراسة المنشورة في مجلة "Communications Earth & Environment"، فإن ثوران بركان أو أكثر في عام 1345 أدى إلى انخفاض حاد في درجات الحرارة وحجب أشعة الشمس، وهي ظاهرة تُعرف بـ "الشتاء البركاني". اعتمد الباحثون من جامعتي كامبريدج ولايبزيغ على علم "التأريخ الشجري"، حيث قاموا بتحليل حلقات نمو الأشجار في جبال البرينيه الإسبانية، ليجدوا أدلة دامغة على توقف النمو وانخفاض عملية التخشيب خلال عامي 1345 و1346، مما يشير إلى برودة شديدة غير معتادة أثرت سلباً على المحاصيل الزراعية.
من المجاعة إلى الوباء: خطوط التجارة القاتلة
أدى فشل المحاصيل الزراعية في أوروبا إلى نقص حاد في الغذاء ومجاعات ضربت القارة العجوز. ولمواجهة هذا النقص، اضطرت المدن التجارية الكبرى مثل البندقية وجنوة إلى الاعتماد على شبكاتها التجارية الممتدة لاستيراد الحبوب من مناطق البحر الأسود. ويشير المؤرخون إلى أن هذه السفن لم تحمل القمح فقط، بل حملت معها الموت المختبئ داخل الفراء؛ حيث كانت القوارض المصابة بالبراغيث الحاملة لبكتيريا "يرسينيا بيستس" تختبئ بين شحنات الحبوب.
رحلة الطاعون: من آسيا إلى قلب أوروبا
تتبعت الدراسة مسار الوباء، حيث يُعتقد أن الطاعون نشأ في عام 1338 عند سفوح جبال تيان شان بالقرب من بحيرة إيسيك كول في قيرغيزستان الحالية. وعبر طرق الحرير والقوافل التجارية، انتقلت البكتيريا إلى موانئ البحر الأسود. ومع وصول السفن الأوروبية المحملة بالحبوب -والفئران- إلى الموانئ الإيطالية في عام 1347، بدأت الكارثة. بمجرد نفوق الفئران، انتقلت البراغيث الجائعة للدغ البشر، مما أدى إلى تفشي المرض بسرعة مرعبة.
تأثيرات ديموغرافية واجتماعية هائلة
لم تكن نتائج هذه السلسلة من الأحداث مجرد أرقام، بل كانت كارثة إنسانية غيرت وجه التاريخ. ففي غضون ست سنوات فقط، قضى الطاعون على ما يقارب 25 مليون شخص، أي ما يعادل 30% إلى 60% من سكان أوروبا في ذلك الوقت. هذا الانهيار السكاني أدى لاحقاً إلى تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية، منها نقص الأيدي العاملة الذي ساهم في تداعي النظام الإقطاعي وارتفاع أجور العمال في العقود التي تلت الوباء، مما يبرز كيف يمكن لحدث مناخي في منطقة نائية أن يعيد تشكيل خريطة العالم البشرية.