شهدت المناطق الحدودية بين تايلاند وكمبوديا تصعيداً عسكرياً خطيراً ومفاجئاً، أدى إلى واحدة من أكبر عمليات النزوح الجماعي في جنوب شرق آسيا خلال السنوات الأخيرة. حيث أكدت المصادر الرسمية في البلدين إجلاء ما يقارب نصف مليون مدني من القرى والبلدات المتاخمة للشريط الحدودي، وسط تبادل كثيف لإطلاق النار واتهامات متبادلة بخرق اتفاق وقف إطلاق النار.
أرقام صادمة وحالة استنفار قصوى
في تفاصيل الأزمة الإنسانية المتفاقمة، أعلنت وزارة الدفاع التايلاندية يوم الأربعاء عن إجلاء أكثر من 400 ألف مواطن تايلاندي من المناطق الساخنة منذ تجدد الاشتباكات يوم الأحد الماضي. وصرح المتحدث باسم وزارة الدفاع التايلاندية، سوراسانت كونغسيري، خلال مؤتمر صحفي عاجل قائلاً: “لقد تم نقل أكثر من 400 ألف شخص إلى ملاجئ آمنة بعيداً عن مرمى النيران”. وأشار إلى أن هذا الإجراء جاء بعد تقييمات أولية كانت تشير إلى إجلاء 180 ألفاً فقط، مضيفاً: “اضطر المدنيون للإخلاء الجماعي بسبب ما اعتبرناه تهديداً وشيكاً ومباشراً لسلامتهم وحياتهم”.
على الجانب الآخر من الحدود، لم يكن الوضع أقل مأساوية، حيث أكدت وزارة الدفاع الكمبودية إجلاء أكثر من 100 ألف مواطن. وقالت المتحدثة باسم الوزارة، مالي سوتشياتا: “في المجموع، تم إجلاء 20,105 عائلات، أي ما يعادل 101,229 شخصاً، وتوزيعهم على ملاجئ ومنازل أقارب في خمس مقاطعات آمنة”.
انهيار الهدنة والوساطة الدولية
يأتي هذا التصعيد العنيف بعد فترة وجيزة من الهدوء النسبي، حيث يتبادل الطرفان الاتهامات حول المسؤولية عن استئناف القتال مساء الأحد. واللافت في هذا التوقيت هو انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم يمضِ عليه سوى أقل من شهرين، والذي تم التوصل إليه بوساطة مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مما يضع الجهود الدبلوماسية الدولية أمام تحدٍ جديد لمنع انزلاق المنطقة نحو حرب مفتوحة.
الجذور التاريخية للصراع: إرث الاستعمار والخرائط
لفهم عمق هذا النزاع، يجب العودة إلى الجذور التاريخية التي تتجاوز الاشتباكات الحالية. تتنازع تايلاند وكمبوديا منذ عقود طويلة على ترسيم أجزاء واسعة من حدودهما المشتركة الممتدة على طول 800 كيلومتر. وتعود أصل المشكلة إلى الخرائط التي رسمها الاستعمار الفرنسي في مطلع القرن العشرين، والتي تختلف عن الخرائط التي تعتمدها تايلاند حالياً.
وتعتبر منطقة معبد “برياه فيهير” الهندوسي القديم واحدة من أبرز نقاط الاشتعال التاريخية بين البلدين، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً في عام 1962 يقضي بتبعية المعبد لكمبوديا، لكن النزاع استمر حول المنطقة المحيطة به والتي تبلغ مساحتها 4.6 كيلومتر مربع. ورغم أن الاشتباكات الحالية قد تشمل مناطق أوسع، إلا أن الإرث التاريخي لعدم ترسيم الحدود يظل المحرك الرئيسي للتوترات.
تداعيات إقليمية ومخاوف اقتصادية
يثير هذا التصعيد مخاوف كبيرة لدى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، حيث يهدد الاستقرار الإقليمي ويعطل حركة التجارة البينية. كما يخشى المراقبون من تأثير هذه العمليات العسكرية على قطاع السياحة الحيوي لكلا البلدين، خاصة في ظل الصور المتداولة لعمليات النزوح الجماعي، مما قد يستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً لاحتواء الأزمة قبل تفاقمها.


