تواجه الأسواق العالمية للتكنولوجيا منعطفاً حاسماً وتحدياً اقتصادياً جديداً يلوح في الأفق، حيث ينذر الاستهلاك النهم وغير المسبوق لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي لرقائق الذاكرة بتبعات مباشرة ومكلفة على المستهلك العادي. وتشير التوقعات والتحليلات السوقية إلى احتمالية كبيرة لعودة موجة ارتفاع أسعار الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، وذلك وفقاً لتحذيرات جدية أطلقها كبار المصنعين والمحللين الاقتصاديين.
خلفية تاريخية: من أزمة التوريد إلى أزمة الطلب النوعي
لفهم عمق الأزمة الحالية، لا بد من استرجاع المشهد التقني خلال السنوات القليلة الماضية. فبعد أن تعافى العالم تدريجياً من أزمة نقص أشباه الموصلات التي رافقت جائحة كورونا وتسببت في تعطيل سلاسل الإمداد، يواجه القطاع اليوم نوعاً مختلفاً من الضغط. الأزمة السابقة كانت ناتجة عن توقف المصانع ومشاكل الشحن، أما الأزمة الحالية فهي ناتجة عن تحول جذري في أولويات التصنيع. فمنذ انطلاق ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي وظهور نماذج لغوية ضخمة مثل "تشات جي بي تي"، دخلت شركات التكنولوجيا الكبرى في سباق تسلح تقني يتطلب قدرات حوسبة هائلة، مما غير خارطة الطريق لصناعة الرقائق عالمياً.
لماذا يلتهم الذكاء الاصطناعي حصة الهواتف؟
تتطلب خوادم الذكاء الاصطناعي الحديثة مكونات فائقة التطور لا تقتصر فقط على المعالجات القوية، بل تحتاج إلى كميات ضخمة من ذاكرة الوصول العشوائي (DRAM) وسعات تخزين فائقة السرعة (NAND) لمعالجة البيانات وتخزينها بكفاءة. هذا الطلب المؤسسي الضخم أدى إلى إعادة توجيه خطوط الإنتاج لدى الشركات المصنعة للرقائق لخدمة الخوادم العملاقة ذات الهوامش الربحية العالية، وذلك على حساب حصة الأجهزة الاستهلاكية التقليدية مثل الهواتف والحواسيب المحمولة، مما يخلق ندرة في المعروض المخصص للمستهلكين.
تحذيرات رسمية من قادة الصناعة
وفي هذا السياق، دق قادة الصناعة ناقوس الخطر، حيث صرح لو وايبينغ، رئيس شركة "شاومي" الصينية العملاقة للإلكترونيات، بأن الضغط المتوقع على سلسلة الإمداد لرقائق الذاكرة في عام 2026 "سيكون أكبر بكثير مما نشهده هذا العام". وأضاف وايبينغ في تصريحاته أن النتيجة الحتمية لهذا الضغط ستكون ملموسة بشكل مباشر لدى الجمهور، قائلاً: "الجميع سيرون على الأرجح ارتفاعاً كبيراً في أسعار التجزئة للمنتجات". وتتوافق هذه الرؤية السوداوية مع توقعات ويليام كيتينغ، رئيس شركة "إنجينيويتي" الاستشارية المتخصصة في أشباه الموصلات، الذي أكد حتمية تأثر الأسعار النهائية للمنتجات التقنية.
استراتيجيات العمالقة: الربح أولاً
ما يزيد من تعقيد المشهد هو الاستراتيجيات المالية التي يتبعها عمالقة إنتاج الرقائق مثل "سامسونغ" و"إس كيه هاينكس" الكوريتين، و"مايكرون" و"سانديسك" الأمريكيتين. حيث تعمد هذه الشركات إلى سياسة "انضباط العرض"، مبقية مستويات المخزون منخفضة بشكل مدروس لتفادي أي تراجع في الأسعار قد يقلص هوامش أرباحهم، خاصة بعد تعافيهم من فترات ركود سابقة. هذا التوازن الدقيق، مع ميل الكفة لصالح طلبات الذكاء الاصطناعي، يضع مصنعي الهواتف الذكية في مأزق تكاليف الإنتاج المتزايدة التي لا مفر من تمريرها للمشتري.
التأثير الاقتصادي المتوقع على المستهلك والسوق
من المتوقع أن يؤدي هذا الارتفاع في تكاليف المكونات الأساسية (DRAM و NAND) إلى موجة "تضخم تقني"، حيث ستجد شركات الهواتف الذكية نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما رفع أسعار أجهزتها الرائدة والمتوسطة، أو تقليل المواصفات في الفئات الاقتصادية للحفاظ على السعر. هذا الوضع قد يغير سلوك المستهلكين عالمياً، دافعاً إياهم للاحتفاظ بأجهزتهم الحالية لفترات أطول (تراجع معدل التحديث)، مما قد يؤدي إلى تباطؤ في دورة مبيعات الهواتف الذكية على المدى المتوسط، في وقت تحقق فيه الشركات المصنعة للرقائق إيرادات قياسية بفضل طفرة الذكاء الاصطناعي.