أعلن وزير المالية السعودي، الأستاذ محمد الجدعان، أن المملكة العربية السعودية قد نجحت في تحقيق تحول استراتيجي في سياستها المالية خلال السنوات الثماني الماضية، مما أسهم في تحقيق معدل نمو سنوي قوي ومستدام في الأنشطة غير النفطية بلغ متوسطه 5%. جاء ذلك خلال كلمته في ملتقى الميزانية السعودية 2026، حيث أوضح أن هذا الإنجاز هو نتاج مباشر لتجاوز السياسة المالية التقليدية التي كانت تتبعها المملكة لعقود.
خلفية تاريخية: من التقلب إلى الاستقرار
تاريخيًا، كان الاقتصاد السعودي، والأهم من ذلك الإنفاق الحكومي، مرتبطًا بشكل وثيق بتقلبات أسعار النفط. هذا الارتباط خلق ما يُعرف بالسياسة المالية “المسايرة للدورة الاقتصادية”، ففي فترات ارتفاع أسعار النفط، كانت الإيرادات تزيد، مما يؤدي إلى توسع كبير في الإنفاق الحكومي على المشاريع والخدمات. وعلى العكس، في فترات انخفاض الأسعار، كان الإنفاق يتقلص بشكل حاد، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي ويهدد استمرارية المشاريع التنموية. هذه الدورة من الازدهار والركود كانت تشكل تحديًا كبيرًا أمام التخطيط طويل الأجل وتعيق تحقيق التنمية المستدامة.
التحول الاستراتيجي نحو سياسة “عكس الدورة الاقتصادية”
مع انطلاق رؤية السعودية 2030، تبنت الحكومة نهجًا ماليًا جديدًا يُعرف بسياسة “عكس الدورة الاقتصادية”. وأوضح الجدعان أن هذا النهج يهدف إلى فصل مسار الإنفاق الحكومي عن تقلبات إيرادات النفط. فبدلاً من التوسع في الإنفاق خلال فترات الرخاء، يتم ضبطه وتوجيه الفوائض المالية لتعزيز الاحتياطيات أو الاستثمار عبر الصناديق السيادية. وفي المقابل، خلال فترات التباطؤ الاقتصادي، يتم زيادة الإنفاق بشكل مدروس لتحفيز الطلب المحلي ودعم القطاع الخاص، مما يخفف من حدة الصدمات الاقتصادية ويحافظ على وتيرة نمو مستقرة.
تأثيرات محلية وإقليمية عميقة
هذا التحول لم يكن مجرد تغيير تقني، بل كان له تأثيرات عميقة على الصعيدين المحلي والإقليمي. محليًا، أدى استقرار الإنفاق الحكومي إلى خلق بيئة اقتصادية أكثر قابلية للتنبؤ، مما شجع على نمو الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية. كما ضمن استمرارية تمويل المشاريع الاستراتيجية والخدمات الأساسية للمواطنين، مثل الصحة والتعليم، بغض النظر عن أسعار النفط. وقد تجلى نجاح هذه السياسة في تحقيق نمو متوسط للقطاع غير النفطي بنسبة 5% سنويًا، مقابل انكماش طفيف في القطاع النفطي بمتوسط 0.5% خلال نفس الفترة، مما يثبت بدء فك الارتباط التاريخي بين النمو والنفط.
نظرة مستقبلية نحو اقتصاد متنوع ومستدام
أكد وزير المالية أن هذا النهج الاستراتيجي ليس مرحليًا، بل هو أساس السياسة المالية للمملكة للمستقبل، حيث سيستمر العمل به حتى عام 2028 على الأقل، وبما يخدم تحقيق مستهدفات رؤية 2030. يهدف هذا الالتزام طويل الأمد إلى ترسيخ الاستقرار الاقتصادي الكلي، وتسريع وتيرة التنويع الاقتصادي، وبناء اقتصاد مرن قادر على مواجهة التحديات العالمية. وبهذا، لا تعزز السعودية مكانتها كقوة اقتصادية إقليمية رائدة فحسب، بل تقدم أيضًا نموذجًا ناجحًا للدول المعتمدة على الموارد الطبيعية في كيفية تحقيق التنمية المستدامة.