تتجه أنظار عشاق التراث والتاريخ يوم السبت المقبل، 6 ديسمبر 2025، صوب منطقة جدة التاريخية (البلد)، حيث تفتتح هيئة المتاحف رسميًا متحف البحر الأحمر، في حدث ثقافي بارز يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والبحر. يأتي هذا الافتتاح تتويجًا لجهود المملكة في صون التراث العالمي، وتفعيلًا لمستهدفات رؤية السعودية 2030 الرامية إلى تعزيز الهوية الوطنية وبناء اقتصاد ثقافي مزدهر.
رمزية المكان: باب البنط وبوابة الحجاج
لا يكتسب المتحف أهميته من مقتنياته فحسب، بل من موقعه الاستراتيجي في مبنى “باب البنط” التاريخي. يُعد هذا المبنى ذاكرة حية لمدينة جدة، حيث لعب لقرون دور “البوابة البحرية” التي استقبلت ملايين الحجاج والمعتمرين والتجار القادمين من شتى بقاع الأرض. إعادة إحياء هذا المعلم وتحويله إلى متحف متخصص يُعد خطوة ذكية لربط الأجيال الجديدة بتاريخ أجدادهم، وتذكير العالم بالدور المحوري الذي لعبته جدة كجسر للتواصل الحضاري والتبادل التجاري بين الشرق والغرب.
وفي هذا السياق، أكد صاحب السمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة ورئيس مجلس إدارة هيئة المتاحف، أن المتحف يمثل التزامًا راسخًا بصون التاريخ، مشيرًا إلى دوره في تعزيز جودة الحياة وتمكين المشهد الفني والثقافي في المملكة.
كنوز البحر الأحمر: رحلة عبر 23 قاعة
يقدم المتحف تجربة غنية تمتد عبر سبعة محاور رئيسية موزعة على 23 قاعة عرض مجهزة بأحدث التقنيات المتحفية. ويضم المتحف مجموعة نادرة تتجاوز 1,000 قطعة أثرية وفنية، تشمل:
- أدوات الملاحة البحرية القديمة والخرائط التي استخدمها البحارة الأوائل.
- مقتنيات تجارية نادرة مثل الخزف الصيني، والمرجان، ومباخر العود، التي تعكس حركة التجارة العالمية عبر البحر الأحمر.
- وثائق ومخطوطات وصور تاريخية توثق رحلات الحج ومواسم التجارة.
- أعمال فنية معاصرة لفنانين سعوديين وعالميين تخلق حوارًا بصريًا بين الماضي والحاضر.
التأثير الثقافي والاقتصادي المتوقع
من المتوقع أن يُحدث متحف البحر الأحمر نقلة نوعية في المشهد السياحي لمدينة جدة. فوجود صرح ثقافي بهذا الحجم داخل منطقة التراث العالمي “اليونسكو” سيعزز من جاذبية المنطقة للزوار الدوليين والمحليين، مما يساهم في تنشيط الحركة الاقتصادية ودعم قطاع الضيافة والخدمات اللوجستية. كما يُرسخ المتحف مكانة المملكة كوجهة ثقافية عالمية قادرة على تقديم تراثها بأسلوب عصري يجمع بين الأصالة والابتكار.
برامج تفاعلية ومعارض متجددة
لا يقتصر دور المتحف على العرض التقليدي، بل يمتد ليكون مركزًا تعليميًا وتفاعليًا. ويشهد الافتتاح إطلاق المعرض المؤقت “بوابة البوابات” للفنان السعودي معاذ العوفي، بإشراف القيّم الفني فيليب كاردينال، والذي يستكشف التحولات المعمارية لباب البنط.
كما يقدم المتحف حزمة من البرامج المجتمعية تشمل:
- مبادرة “صُنع في البحر الأحمر”: لتدريب الحرفيين وتطوير الصناعات اليدوية المستوحاة من البيئة البحرية.
- موسيقى البحر الأحمر: عروض فنية تحتفي بالموروث الغنائي للمنطقة.
- جولات إرشادية وبرامج تعليمية مخصصة للمدارس والعائلات لتعزيز الوعي بالتراث البحري.
بافتتاح هذا الصرح، تعيد جدة كتابة تاريخها البحري، فاتحةً أبواب “باب البنط” مرة أخرى، ليس لاستقبال البضائع هذه المرة، بل لاستقبال الباحثين عن المعرفة والجمال، ولتؤكد للعالم أن البحر الأحمر لم يكن مجرد ممر مائي، بل كان ولا يزال شريانًا للحياة والحضارة.