في قلب صحراء الجوف الشاسعة، حيث تمتد الكثبان الرملية إلى ما لا نهاية، يبرز فريق “نخبة الشمال للإنقاذ” كشعاع أمل وبصيص نجاة للتائهين والمفقودين. هذه الجمعية التطوعية لا تمثل مجرد مجموعة من الأفراد، بل هي منظومة متكاملة تعمل كشريك أساسي للجهات الحكومية، مسخرةً خبراتها العميقة بالطبيعة الصحراوية وأحدث التقنيات لإنقاذ الأرواح في سباق ضد الزمن.
تحديات الطبيعة وضرورة الإنقاذ
تتميز منطقة الجوف، الواقعة في شمال المملكة العربية السعودية، بطبيعتها الجغرافية القاسية وتضاريسها الوعرة التي تتنوع بين الصحاري الرملية الشاسعة مثل صحراء النفود الكبير، والمناطق البرية المفتوحة. هذه البيئة، رغم جمالها، تشكل تحديًا كبيرًا حتى للمتمرسين من محبي الرحلات البرية والتخييم، حيث يمكن أن يؤدي عطل مفاجئ في المركبة أو نفاد الوقود أو ضياع الطريق إلى وضع حرج يهدد الحياة، خاصة مع تقلبات الطقس القاسية وانقطاع شبكات الاتصال في كثير من الأحيان.
من “الفزعة” إلى العمل المؤسسي المنظم
تستمد فرق الإنقاذ التطوعية مثل “نخبة الشمال” جذورها من موروث ثقافي سعودي أصيل يُعرف بـ “الفزعة”، وهو النخوة والمبادرة العفوية لنجدة من يطلب العون. ومع انطلاق رؤية المملكة 2030، التي شجعت على تنمية القطاع غير الربحي وتفعيل دور المواطن في خدمة مجتمعه، تحولت هذه المبادرات الفردية إلى عمل مؤسسي منظم. تأسست جمعية نخبة الشمال رسميًا في عام 2019م، لتكون نموذجًا رائدًا في العمل التطوعي المتخصص، حيث تجمع بين شجاعة الأفراد والتخطيط الاستراتيجي والتنسيق المحكم مع الجهات الرسمية.
فريق متكامل وتجهيزات متطورة
تضم الجمعية في عضويتها ما يزيد على 116 متطوعًا من أبناء مدن ومحافظات منطقة الجوف، الذين يمتلكون شغفًا بالعمل الإنساني ومعرفة دقيقة بتضاريس المنطقة. ولضمان أعلى درجات الكفاءة، تم تجهيز الفريق بأسطول من المركبات رباعية الدفع المعدلة خصيصًا لتناسب طبيعة المناطق الصحراوية. كل مركبة هي بمثابة غرفة عمليات متنقلة، تحمل احتياجات الفريق الأساسية من ماء وغذاء، بالإضافة إلى أدوات السلامة والإنقاذ المتقدمة، وحقائب الإسعافات الأولية المتكاملة.
وتبرز التقنية كعنصر حاسم في عمليات البحث، حيث يعتمد الفريق على منظومة اتصالات متطورة تشمل أجهزة اتصال لاسلكي، وهواتف تعمل عبر الأقمار الصناعية لضمان التواصل في المناطق المعزولة. كما يستخدمون مناظير عالية الدقة لمسح المناطق الشاسعة، وخرائط إلكترونية وورقية، مما يضاعف من سرعة وكفاءة تحديد أماكن المفقودين.
آلية عمل دقيقة ومنسقة
يبدأ عمل الفريق فور تلقي بلاغ رسمي عن مفقود، وذلك بعد التنسيق المباشر مع الجهات الأمنية المختصة. يتم تحديد آخر موقع معروف للمفقود أو آخر نقطة اتصال له، وبناءً عليه يُرسم نطاق بحث أولي. يتم بعد ذلك تعميم الحالة على جميع أعضاء الفريق الذين يتأهبون للانطلاق في غضون فترة وجيزة. يُقسم النطاق الجغرافي إلى مربعات بحث، ويتولى كل جزء من الفريق مسؤولية مسح منطقته بدقة، مع الحفاظ على تواصل مستمر مع غرفة العمليات لتبادل المستجدات. تستمر العملية حتى العثور على المفقود، حيث يتم تقديم الإسعافات الأولية اللازمة له، وتأمين سلامته، وإبلاغ الجهات الأمنية وذويه، وتقديم المساعدة اللازمة لمركبته.
أثر يتجاوز حدود الإنقاذ
لا يقتصر دور “نخبة الشمال” على إنقاذ الأرواح فحسب، بل يمتد تأثيرهم لتعزيز ثقافة السلامة والوعي في المجتمع. من خلال أنشطتهم، يقدمون رسائل توعوية حول أهمية الاستعداد الجيد للرحلات البرية. على المستوى المحلي، يمثل الفريق شبكة أمان إضافية لسكان وزوار المنطقة، ويعززون الشعور بالانتماء المجتمعي. وعلى المستوى الوطني، تُعد الجمعية مثالًا ملهمًا يجسد نجاح الشراكة بين القطاعين الحكومي وغير الربحي، ويشجع على تأسيس فرق مماثلة في مختلف مناطق المملكة.