في إنجاز فلكي غير مسبوق قد يعيد تشكيل فهمنا لبدايات الوجود، أعلن فريق بحثي من جامعة “توليدو” عن رصد أدلة قوية ومثيرة باستخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي التابع لوكالة “ناسا“. تشير البيانات إلى اكتشاف النجوم الأولى التي ولدت بعد الانفجار العظيم، وهي الفئة الغامضة المعروفة علمياً باسم “Population III”.
السياق الكوني: الخروج من العصور المظلمة
لفهم عظمة هذا الاكتشاف، يجب العودة إلى الوراء، وتحديداً إلى ما يُعرف بـ “العصور المظلمة الكونية”. بعد الانفجار العظيم، كان الكون عبارة عن حساء ساخن ومعتم من الجسيمات الأولية، ومع توسعه وتبريده، ساد ظلام دامس لمئات الملايين من السنين قبل أن تتشكل أي مصادر للضوء. كان الكون ينتظر الشرارة الأولى، وتأتي أهمية نجوم “Population III” كونها تلك الشرارة التي أنهت الظلام وأطلقت حقبة “فجر الكون”، حيث بدأت عملية إعادة التأين التي جعلت الكون شفافاً كما نراه اليوم.
تقنية العدسة الجاذبية: معجزة أينشتاين الرصدية
نظراً للبعد السحيق لهذه النجوم، فإن رصدها بشكل مباشر يعد مستحيلاً حتى بأقوى التلسكوبات. هنا تبرز عبقرية الحل الذي استخدمه العلماء، معتمدين على ظاهرة “العدسة الجاذبية” التي تنبأت بها النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. تقع النجوم المرصودة خلف مجرة ضخمة لعبت دور “عدسة مكبرة كونية”؛ حيث قامت كتلة المجرة الوسيطة بحني الزمكان وتضخيم ضوء النجوم الخلفية بنحو 100 مرة، مما مكن مستشعرات جيمس ويب فائقة الحساسية من التقاط هذا الضوء الخافت القادم من حافة الزمن.
الأهمية العلمية: الحلقة المفقودة في الجدول الدوري
تختلف نجوم “Population III” جذرياً عن شمسنا أو أي نجوم نراها اليوم. فهي نجوم عملاقة، شديدة الحرارة، وتتكون حصرياً من الهيدروجين والهيليوم (العناصر الأولية للكون). تكمن أهميتها القصوى في أنها كانت المصانع الأولى للعناصر الثقيلة؛ فحياتها القصيرة التي انتهت بانفجارات سوبرنوفا هائلة هي التي نثرت العناصر مثل الكربون، الأكسجين، والحديد في الفضاء. وبدون هذا الجيل الأول، لم تكن الكواكب الصخرية لتتشكل، ولم تكن الحياة البيولوجية ممكنة. لذا، فإن دراسة هذه النجوم هي دراسة لأصل ذرات أجسادنا.
ثورة جيمس ويب وتأثيرها المستقبلي
يبرز هذا الاكتشاف النقلة النوعية التي أحدثها تلسكوب جيمس ويب مقارنة بسلفه “هابل”. فبينما قدم هابل صوراً مذهلة في الطيف المرئي، فإن قدرة جيمس ويب على الرصد في نطاق الأشعة تحت الحمراء هي المفتاح لرؤية الماضي السحيق، حيث أن ضوء الأجرام القديمة يتمدد وينزاح نحو الأحمر بسبب توسع الكون. يتوقع العلماء أن يفتح هذا الرصد الباب لفهم أعمق لكيفية تجمع المادة لتكوين المجرات الأولى، مما سيؤثر على النماذج الفيزيائية الفلكية المعتمدة عالمياً ويجيب عن أسئلة وجودية حول نشأة الكون.