لم تعد كرة القدم في منطقة بلاد الشام مجرد نشاط رياضي يكتفي بالحضور الرمزي أو المشاركة الشرفية في المحافل القارية والدولية. فخلال السنوات القليلة الماضية، شهدت المنطقة تحولاً جذرياً ونقلة نوعية واضحة، تُرجمت فعلياً على أرض الملعب إلى نتائج تاريخية وأداء تكتيكي حديث يليق بطموحات شعوب هذه المنطقة.
سياق تاريخي وتحول في موازين القوى
تاريخياً، كانت السيطرة الكروية في غرب آسيا تميل لصالح منتخبات الخليج العربي أو القوى التقليدية مثل إيران والعراق. عانت الكرة في بلاد الشام لسنوات طويلة من تذبذب المستوى وضعف البنية التحتية مقارنة بجيرانها. ومع ذلك، فإن المشهد الحالي يشير إلى تغيير حقيقي في الخارطة الكروية الآسيوية، حيث بدأت الفجوة تضيق بشكل ملحوظ، وباتت منتخبات الشام رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بسهولة.
الأردن.. النشامى من الحلم إلى الواقعية المفرطة
لعل أبرز تجليات هذه النهضة هو ما يقدمه المنتخب الأردني “النشامى”. لقد فتح الأداء البطولي في كأس آسيا الأخيرة والوصول للمباراة النهائية صفحة جديدة في تاريخ الكرة الأردنية، مؤكداً أن الوصول إلى كأس العالم 2026 لم يعد مجرد “طموح بعيد” بل أصبح واقعاً ممكناً وهدفاً استراتيجياً. يمتلك المنتخب اليوم هوية لعب واضحة المعالم، وانضباطاً تكتيكياً عالياً، ومدرسة تعتمد على التحولات الهجومية السريعة واستغلال مهارات فردية استثنائية لمحترفين ينشطون في دوريات أوروبية وعربية كبرى. لم يعد النشامى يدخلون البطولات للمشاركة، بل بعقلية المنافسة على اللقب حتى الرمق الأخير.
فلسطين.. الفدائي يكتب التاريخ رغم الصعاب
من جانب آخر، يقدم المنتخب الفلسطيني “الفدائي” دروساً في الإرادة والثبات. أبرز ما ميز الكرة الفلسطينية مؤخراً هو القفزة النوعية في المستوى الفني والبدني، والقدرة على مقارعة كبار القارة. ظهر ذلك جلياً في كأس آسيا وتصفيات كأس العالم، حيث تمكن المنتخب من تجاوز دور المجموعات لأول مرة في تاريخه، مقدماً أسلوب لعب عصري يعتمد على الضغط العالي والارتداد السريع. باتت فلسطين منافساً حقيقياً يمتلك شخصية قوية داخل المستطيل الأخضر، متجاوزة لقب “الحصان الأسود” لتصبح فريقاً يحسب له ألف حساب.
سوريا.. نسور قاسيون ومدرسة الانضباط الجديد
رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها الكرة السورية، عاد المنتخب السوري ليقدم وجهاً مغايراً يتسم بالحداثة والانضباط التكتيكي الصارم، خاصة مع استقطاب مدارس تدريبية عالمية (مثل هيكتور كوبر). التطور لم يقتصر على الجانب الدفاعي، بل شمل الجانب البدني وظهور جيل جديد من اللاعبين المغتربين والمحليين الذين يلعبون بشراسة وثقة. الفريق تخلص من عقدة الدفاع المفرط، وبات يمتلك الجرأة لبناء الهجمات وتهديد مرمى الخصوم، مما أهله لتجاوز دور المجموعات في الاستحقاقات القارية الأخيرة لأول مرة.
لماذا الآن؟ أسباب النهضة الكروية
لم يأتي هذا التطور من فراغ، بل هو نتاج عدة عوامل جوهرية:
- تغير العقلية: تحولت عقلية اللاعب والمدرب من مجرد “ترك بصمة” مشرفة إلى عقلية الفوز والمنافسة على الأدوار المتقدمة.
- الاحتراف الخارجي: اتساع رقعة المحترفين من بلاد الشام في الدوريات الأوروبية (مثل الدوري الفرنسي والبلجيكي) والدوريات الخليجية والآسيوية القوية، مما منح اللاعبين خبرة الاحتكاك وثقة النفس.
- تطور الأساليب التدريبية: الاعتماد على التحليل الفني الحديث، واللعب بمساحات ضيقة، والتحولات السريعة، وهي سمات الكرة الحديثة.
- الاستثمار في الفئات العمرية: بدأت ثمار الأكاديميات وبرامج التطوير في الأردن وسوريا وفلسطين بالظهور، مع صعود مواهب شابة تأسست بشكل علمي صحيح.
التأثير المستقبلي
إن هذه النهضة الرياضية في بلاد الشام لا تقتصر آثارها على النتائج الآنية، بل تؤسس لمستقبل مشرق يعيد التوازن للكرة العربية في آسيا. المنطقة اليوم تصنع جيلاً جديداً من الفرق التي تعرف ماذا تريد، وتملك الأدوات اللازمة للوصول إلى أهدافها، مدعومة بقاعدة جماهيرية عريضة وإعلام رياضي شريك في صناعة هذا التغيير.