مبادرة فردية لحفظ ذاكرة أمة
في مبادرة فردية فريدة من نوعها، نجح المواطن السعودي فتحي البنعلي في تحويل شغفه العميق بالتراث إلى مشروع ثقافي وطني رائد. على مدى أربعة عقود كاملة، كرس البنعلي وقته وجهده لجمع وتوثيق ما يزيد عن 10 آلاف قطعة أثرية نادرة، ليؤسس بذلك متحفاً شخصياً متخصصاً في جزيرة دارين التاريخية، يهدف إلى حماية الموروث البحري والشعبي للمنطقة الشرقية والمحافظة عليه للأجيال القادمة.
السياق التاريخي: دارين وتراث البحر
تكتسب هذه المبادرة أهمية خاصة بالنظر إلى الموقع الذي تحتضنه، فجزيرة دارين كانت أحد أهم الموانئ التاريخية على ساحل الخليج العربي، ومركزاً حيوياً لتجارة اللؤلؤ والسلع قبل عصر النفط. كان البحر هو شريان الحياة ومصدر الرزق الأساسي لسكان المنطقة، حيث شكلت مهن الغوص لصيد اللؤلؤ، وصيد الأسماك، وصناعة السفن (القلافة) النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع. ويأتي متحف البنعلي ليكون بمثابة سجل مادي حي يروي قصة كفاح الأجداد وتكيفهم مع بيئتهم البحرية، في حقبة تاريخية شكلت هوية المنطقة بأكملها.
أقسام المتحف: رحلة عبر الزمن
يمتد المتحف على مساحة 550 متراً مربعاً، وقد تم تصميمه بعناية فائقة ليقدم للزائر تجربة غامرة في تفاصيل الحياة القديمة. ينقسم المتحف إلى خمسة أقسام رئيسية، أبرزها “غرفة العروس” التي تعرض بكامل تجهيزاتها التقليدية، و”مجلس النوخذة” الذي يجسد المكانة المرموقة لربان سفينة الغوص، بالإضافة إلى ركن “الدكان” الذي يعرض نماذج للسلع والمستلزمات التي كانت متداولة آنذاك. ويحتل التراث البحري الحصة الأكبر من المعروضات، حيث يضم أدوات الغوص والصيد ومجسمات نادرة لسفن تقليدية اندثر بعضها، مما يجعله مرجعاً بصرياً لا يقدر بثمن للباحثين والمهتمين.
أهمية إقليمية وتأثير ثقافي
لم تقتصر جهود البنعلي في جمع المقتنيات على المملكة العربية السعودية فحسب، بل امتدت لتشمل دول الخليج العربي الأخرى، إيماناً منه بوحدة التراث والمصير المشترك الذي يربط شعوب المنطقة. هذا البعد الإقليمي يضفي على المتحف قيمة مضافة، حيث يبرز التشابه الكبير في أنماط الحياة والعادات والتقاليد البحرية على امتداد سواحل الخليج، مما يجعله وجهة للزوار والباحثين من مختلف دول مجلس التعاون. كما يساهم المتحف في تعزيز السياحة الثقافية في المنطقة الشرقية، ويقدم مورداً تعليمياً حياً لطلاب المدارس والجامعات لتعريفهم بتاريخهم بشكل ملموس. وتتزامن هذه الجهود مع التوجهات الوطنية، مثل مبادرة “عام الحرف اليدوية 2025″، التي تهدف إلى إحياء التراث الحرفي وضمان استدامته.