تواجه الصناعة الأوروبية واحدة من أخطر أزماتها في العصر الحديث، حيث تتضافر العوامل الاقتصادية والجيوسياسية لتشكل ضغطاً غير مسبوق على القارة العجوز. لم يعد الأمر يقتصر على مجرد تراجع دوري في الإنتاج، بل يتعداه إلى مخاوف حقيقية من "تآكل صناعي" طويل الأمد يهدد المكانة الاقتصادية لأوروبا عالمياً، خاصة في ظل تراجع قطاعات استراتيجية حيوية مثل الصناعات الكيميائية، والبلاستيكية، والمعادن، وصناعة السيارات التي طالما كانت فخر الإنتاج الأوروبي.
نهاية عصر الطاقة الرخيصة
لفهم عمق الأزمة الحالية، لا بد من النظر إلى السياق التاريخي القريب؛ فقد بني النموذج الصناعي الأوروبي -وخاصة الألماني- لعقود طويلة على أساس توفر إمدادات الطاقة الرخيصة والمستقرة، وتحديداً الغاز الروسي. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا وتغير الخارطة الجيوسياسية للطاقة، فقدت الصناعة الأوروبية ميزتها التنافسية الرئيسية. أدى الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والكهرباء إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل جعل من الصعب على المصانع الأوروبية منافسة نظيراتها في آسيا أو الولايات المتحدة.
ألمانيا.. المحرك الصناعي يتباطأ
تظهر ملامح الأزمة بوضوح في ألمانيا، القوة الاقتصادية الأكبر في أوروبا. فقد وصف اتحاد الصناعات الألماني التراجع الحالي بأنه "خلل هيكلي" وليس مجرد كبوة عابرة. وتشير البيانات إلى أن صناعة الكيميائيات الألمانية، التي تعد عصب الصناعة التحويلية، قد انحدرت إلى أدنى مستوياتها منذ ثلاثة عقود. هذا التراجع ينعكس سلباً على سلاسل التوريد في القارة بأكملها، مما يثير تساؤلات حول مستقبل النموذج الاقتصادي الألماني القائم على التصدير.
التنين الصيني يلتهم حصص السوق
في المقابل، تواصل الصين تعزيز هيمنتها الصناعية، مستفيدة من الدعم الحكومي السخي وتكاليف الإنتاج المنخفضة. وتشكل صناعة السيارات الكهربائية ساحة المعركة الأبرز حالياً؛ حيث تشير التوقعات الاقتصادية إلى تحول تاريخي في الميزان التجاري، إذ من المرجح أن تتجاوز واردات الاتحاد الأوروبي من السيارات الصينية حجم صادراته إليها بحلول عام 2025. هذا التفوق لا يقتصر على السيارات فحسب، بل يمتد ليشمل إغراق السوق الأوروبية بالفولاذ الصيني بأسعار تنافسية للغاية، مما يضع المنتجين المحليين أمام خيارات صعبة.
تحديات المستقبل والحلول الصعبة
ورغم محاولات المفوضية الأوروبية تدارك الموقف عبر مبادرات مثل "خطة الفولاذ" وفرض رسوم جمركية حمائية، إلا أن هذه الخطوات تواجه انتقادات ومخاوف. يرى الخبراء أن الإجراءات الحمائية قد تؤدي إلى ارتفاع التكاليف على المستهلك النهائي وتراجع القدرة التنافسية للصناعة الأوروبية على المدى الطويل بدلاً من تعزيزها. وفي فرنسا، يعكس تعثر شركات ناشئة مثل "إنسيكت" صعوبة البيئة الاستثمارية الحالية، مما يضع صناع القرار في أوروبا أمام تحدي الموازنة بين الطموحات المناخية والواقع الاقتصادي المرير.