مقدمة: ساحة معركة استراتيجية في الحرب التجارية
في خضم الحرب التجارية الشرسة التي أشعلها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم تكن ساحة المعركة مقتصرة على الرسوم الجمركية والسلع التقليدية فحسب، بل امتدت لتشمل مورداً استراتيجياً حيوياً: المعادن النادرة. ورغم أن الهدف الأمريكي كان الضغط على بكين، إلا أن الصين خرجت من هذه المواجهة وهي المستفيد الأكبر، حيث نجحت في استغلال هيمنتها شبه المطلقة على هذا القطاع لتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية وجيوسياسية لا يمكن تجاوزها، وكشفت عن نقطة ضعف هيكلية لدى الغرب.
ما هي المعادن النادرة ولماذا تعد “نفط القرن الحادي والعشرين”؟
المعادن النادرة، أو العناصر الأرضية النادرة (REEs)، هي مجموعة من 17 عنصراً كيميائياً في الجدول الدوري. وعلى عكس ما يوحي به اسمها، فهي ليست نادرة من حيث الوفرة في القشرة الأرضية، ولكن ندرتها تكمن في صعوبة وتعقيد عمليات استخراجها وفصلها وتكريرها بشكل اقتصادي وآمن بيئياً. تدخل هذه العناصر في صميم التكنولوجيا الحديثة، فهي مكون أساسي في صناعات استراتيجية تشمل:
- التكنولوجيا المتقدمة: الهواتف الذكية، شاشات الكمبيوتر، والرقائق الإلكترونية.
- الطاقة المتجددة: توربينات الرياح والمحركات عالية الكفاءة في السيارات الكهربائية.
- الصناعات الدفاعية: أنظمة توجيه الصواريخ، والرادارات، والليزر، ومحركات الطائرات المقاتلة مثل F-35.
هذه الأهمية الحيوية جعلت السيطرة على إمداداتها ورقة ضغط استراتيجية تعادل سيطرة الدول على إمدادات النفط في القرن العشرين.
الخلفية التاريخية: كيف بنت الصين إمبراطوريتها بصمت؟
لم تكن هيمنة الصين وليدة الصدفة. ففي الثمانينيات والتسعينيات، كانت الولايات المتحدة رائدة في هذا المجال عبر منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا. لكن الشركات الأمريكية نقلت عملياتها تدريجياً إلى الصين مدفوعة بانخفاض تكاليف العمالة والتشريعات البيئية الأقل صرامة. استغلت بكين هذه الفرصة بذكاء، ولم تكتفِ بالاستخراج فقط، بل استثمرت بكثافة في بناء سلسلة قيمة متكاملة تشمل أصعب المراحل وأكثرها ربحية، وهي الفصل والتكرير وإنتاج السبائك والمغانط الدائمة. مقولة الزعيم الصيني السابق دينج شياو بينج عام 1992 تلخص الرؤية الاستراتيجية: “الشرق الأوسط لديه النفط، والصين لديها المعادن النادرة”. اليوم، تسيطر الصين على أكثر من 60% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن، والأهم من ذلك، تهيمن على ما يقرب من 90% من عمليات التكرير والمعالجة المعقدة.
استخدام ورقة المعادن النادرة في عهد ترامب
عندما فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركية على البضائع الصينية، ردت بكين بتلميحات قوية حول إمكانية تقييد صادراتها من المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة. كانت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ في مايو 2019 إلى منشأة لمعالجة المعادن النادرة في مقاطعة جيانغشي رسالة واضحة للعالم. أثارت هذه الخطوة قلقاً بالغاً في واشنطن والعواصم الغربية، حيث أدركت الشركات التكنولوجية والدفاعية مدى اعتمادها على الإمدادات الصينية. ورغم أن الصين لم تفرض حظراً شاملاً، إلا أن التهديد وحده كان كافياً لإحداث صدمة في الأسواق العالمية وإظهار مدى النفوذ الذي تمتلكه بكين.
رد الفعل العالمي والبحث عن بدائل
دفعت الصدمة الولايات المتحدة وحلفاءها إلى التحرك سريعاً لتنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين. بدأت واشنطن في إطلاق مبادرات لتعزيز سلسلة التوريد المحلية “من المنجم إلى المغناطيس”، وقدمت وزارة الدفاع استثمارات لإعادة بناء القدرات الأمريكية في هذا المجال. كما تم تعزيز الشراكات الدولية مع دول مثل أستراليا، التي تمتلك شركة “ليناس”، وهي أكبر منتج للمعادن النادرة خارج الصين. ومع ذلك، أقر الخبراء بأن بناء سلسلة توريد بديلة ومستقلة بالكامل هو مشروع طويل الأمد ومكلف للغاية، وقد يستغرق عقداً من الزمن أو أكثر لتحقيق نتائج ملموسة.
الخاتمة: الصين تخرج أكثر قوة
في نهاية المطاف، كشفت حرب المعادن النادرة عن حقيقة استراتيجية: لقد نجحت الصين في تحويل مورد طبيعي إلى أداة نفوذ جيوسياسي فعالة. فبدلاً من إضعافها، سلطت المواجهة الضوء على اعتماد العالم عليها، ودفعتها لزيادة استثماراتها وتوحيد شركاتها الحكومية العملاقة لتعزيز قبضتها على السوق. لقد أثبتت بكين أن أي محاولة لفصل الاقتصاد العالمي عنها ستكون مؤلمة ومكلفة، وأنها تمتلك أوراقاً قوية قادرة على استخدامها بفعالية، لتخرج من هذه الحرب التجارية وهي أكثر قوة ونفوذاً في قطاع يمثل عصب المستقبل التكنولوجي والعسكري.