في خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد البحثي في المملكة العربية السعودية، أطلقت هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار دليلاً استرشادياً شاملاً لتنظيم التعاون العلمي الدولي للباحثين لعام 2025. وتأتي هذه الخطوة كانعكاس مباشر للتحولات الجوهرية التي تشهدها المملكة في ظل رؤية 2030، التي تضع الابتكار واقتصاد المعرفة في صلب أولوياتها الوطنية.
سياق التحول نحو اقتصاد المعرفة
لا يمكن قراءة هذه الضوابط الجديدة بمعزل عن الحراك التاريخي الذي يقوده ولي العهد السعودي، حيث تأسست الهيئة لتكون المظلة الوطنية التي توحد جهود البحث والتطوير. وتسعى المملكة من خلال هذه التشريعات إلى الانتقال من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى الاستثمار في العقول والابتكارات، مما يستدعي ضبط جودة الشراكات الدولية لضمان نقل معرفة حقيقي وفعال يخدم التنمية المستدامة.
معايير النخبة: الجودة قبل الكم
فرض الدليل الجديد شروطاً انتقائية غير مسبوقة، حيث ألزم الباحثين السعوديين والمؤسسات الوطنية بحصر تعاونهم العلمي مع نظراء ينتمون إلى مؤسسات تقع ضمن قائمة “أفضل 200 جامعة” أو مركز بحثي على مستوى العالم. ويستند هذا التصنيف إلى مؤشرات عالمية موثوقة مثل “QS” و”تايمز”، بالإضافة إلى الشريحة العليا لمؤشر “نيتشر”. ويهدف هذا الشرط إلى قطع الطريق أمام الشراكات الصورية أو التعاون مع مؤسسات أكاديمية ضعيفة المستوى، لضمان أن تكون المخرجات البحثية ذات قيمة علمية مضافة.
النزاهة العلمية خط أحمر
وفي سابقة تنظيمية، حظرت الهيئة بشكل قاطع أي تعاون مع باحثين دوليين تلطخت سمعتهم العلمية، وتحديداً أولئك الذين سُحبت لهم أوراق بحثية خلال السنوات الثلاث السابقة بسبب مخالفات علمية أو أخلاقية. ويأتي هذا الإجراء لحماية سمعة المملكة الأكاديمية وتحصينها من ممارسات “الاحتيال البحثي” أو التلاعب بالبيانات، مشددة على أن يكون الشريك الدولي خبيراً معترفاً به وذا سجل نقي في النشر العلمي ضمن مجلات عالية الجودة.
الأولويات الوطنية والسيادة الرقمية
وجهت الهيئة البوصلة البحثية نحو أربع أولويات وطنية كبرى: صحة الإنسان، استدامة البيئة، الريادة في الطاقة، واقتصاديات المستقبل. ولضمان حماية المصالح الوطنية، ألزم الدليل المؤسسات بإنشاء لجان حوكمة داخلية لمراجعة المقترحات، مع التركيز الشديد على “السيادة الرقمية”. حيث أوجبت الضوابط تخزين البيانات وحمايتها وفقاً لمعايير الهيئة الوطنية للأمن السيبراني و”سدايا”، مع اشتراط تسجيل الملكية الفكرية محلياً لدى الهيئة السعودية للملكية الفكرية قبل أي تسجيل دولي، لضمان حقوق المملكة في الابتكارات الناتجة.
وتطمح المملكة من خلال هذه المنظومة المتكاملة إلى رفع الإنفاق على قطاع البحث والتطوير ليصل إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2040، وحجز مقعد لها ضمن أعلى 10 دول في مؤشر الابتكار العالمي، مما يعزز مكانتها كقوة علمية واقتصادية صاعدة في المنطقة والعالم.