كشفت نتائج استطلاع حديث للرأي عن تحولات عميقة في المزاج العام الأوروبي، حيث يعتقد عدد كبير من المواطنين في القارة العجوز أن هناك خطراً حقيقياً ومتزايداً لاندلاع مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في المستقبل القريب. يأتي هذا الاستطلاع الذي نشرته مجلة “لو جران كونتينان” الفرنسية ليسلط الضوء على حالة القلق التي تسيطر على الشارع الأوروبي في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوترات الجيوسياسية.
مخاوف متصاعدة من صراع مفتوح
وفقاً للاستطلاع الذي أجرته مجموعة “كلاستر 17” وشمل 9553 شخصاً في تسع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإن 51% من المشاركين يرون أن احتمالية نشوب حرب بين بلادهم وروسيا في السنوات المقبلة تُعد “مرتفعة” أو “مرتفعة جداً”. شملت العينة دولاً محورية هي فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، بولندا، البرتغال، كرواتيا، بلجيكا، وهولندا.
وتعكس هذه الأرقام التأثير المباشر للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا المستمرة منذ فبراير 2022، والتي أعادت شبح الحرب التقليدية إلى الأراضي الأوروبية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، مما غير المفاهيم الأمنية لدى المواطن الأوروبي العادي.
الجغرافيا تحكم المخاوف: بولندا في الواجهة
أظهرت النتائج تبايناً واضحاً بناءً على الموقع الجغرافي للدول؛ ففي بولندا، التي تشترك في حدود مباشرة مع كل من روسيا (عبر كالينينغراد) وحليفتها بيلاروسيا، وتملك تاريخاً طويلاً من التوتر مع موسكو، ارتفعت نسبة القلق بشكل كبير، حيث رأى 77% من المستطلعين أن خطر الحرب مرتفع للغاية.
في المقابل، بدت دول جنوب أوروبا أقل تشاؤماً، حيث اعتبر 65% من الإيطاليين أن الخطر منخفض أو معدوم، وهو ما يعكس البعد الجغرافي عن خطوط التماس المباشرة مع النفوذ الروسي. أما في القوى التقليدية للاتحاد، فقد بلغت نسبة القلق في فرنسا 54% وفي ألمانيا 51%.
أزمة ثقة في القدرات الدفاعية الوطنية
لعل النتيجة الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لصناع القرار في بروكسل هي انعدام الثقة في القدرات العسكرية الوطنية. فقد رأى أكثر من ثلثي المشاركين (69%) أن بلدانهم “غير قادرة إطلاقاً” أو “بالأحرى غير قادرة” على الدفاع عن نفسها بمفردها ضد أي عدوان روسي محتمل.
هذه النتيجة تبرز الاعتماد الأوروبي التاريخي على المظلة الأمنية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، وتفسر التحركات الأخيرة لزيادة الإنفاق الدفاعي في دول مثل ألمانيا (استراتيجية نقطة التحول) وبولندا.
الاستثناء الفرنسي والردع النووي
شكلت فرنسا استثناءً نسبياً في هذا السياق، حيث كانت الدولة الوحيدة التي أظهر مواطنوها تفاؤلاً حذراً، إذ رأى 44% منهم أن بلادهم قادرة على الدفاع عن نفسها. ويُعزى هذا الشعور بشكل رئيسي إلى امتلاك فرنسا لقوة ردع نووي مستقلة وجيش محترف يُعد من بين الأقوى في القارة، مما يمنح الشارع الفرنسي شعوراً بالأمان لا يتوفر لدى دول مثل بلجيكا وإيطاليا والبرتغال، التي شكك أكثر من 85% من مواطنيها في قدرات جيوشهم الدفاعية.
وفي سياق آخر، أظهر الاستطلاع أن المخاوف تتركز بشكل أساسي على روسيا، حيث استبعدت أغلبية ساحقة (81%) اندلاع أي نزاع عسكري مع الصين في السنوات المقبلة، مما يشير إلى أن التهديد الروسي هو الهاجس الأمني الأول للأوروبيين حالياً.
