مقدمة: جدل سياسي واقتصادي في روما
تشهد الساحة السياسية الإيطالية جدلاً واسعاً أثاره نواب من الائتلاف اليميني الحاكم، بقيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، حول مستقبل احتياطيات الذهب الضخمة للبلاد. يتمحور النقاش حول مقترح تشريعي يسعى إلى إعلان هذه الاحتياطيات “ملكية عامة للشعب الإيطالي”، وهي خطوة تبدو رمزية في ظاهرها، لكنها تثير مخاوف عميقة لدى الخبراء الاقتصاديين والمعارضة من أن تكون تمهيداً لسيطرة الحكومة على هذا الأصل السيادي واستخدامه لمواجهة التحديات المالية.
إيطاليا: عملاق الذهب العالمي
تمتلك إيطاليا ثالث أكبر احتياطي من الذهب في العالم، بعد الولايات المتحدة وألمانيا، بكمية تقدر بنحو 2,452 طناً مترياً. وتبلغ القيمة السوقية الحالية لهذا الكنز الهائل حوالي 285 مليار يورو، وفقاً لأحدث بيانات البنك المركزي الإيطالي. هذا المخزون الضخم ليس مجرد أرقام في الميزانية، بل هو ركيزة أساسية للاستقرار المالي للبلاد.
ويؤكد البنك المركزي الإيطالي، الذي يدير هذه الأصول، أن الذهب يُحتفظ به كجزء لا يتجزأ من احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية. ويوضح البنك أن هذه المخزونات “تعزز الثقة في استقرار النظام المالي الإيطالي واستقرار اليورو”، وتعمل كـ”ضمانة له في أداء مهامه العامة”، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية العالمية.
خلفية تاريخية: من المعجزة الاقتصادية إلى أصل سيادي
لم يتكون هذا الاحتياطي الضخم بين عشية وضحاها، بل هو نتاج عقود من النمو الاقتصادي. تراكم الجزء الأكبر من ذهب إيطاليا خلال فترة “المعجزة الاقتصادية الإيطالية” (il miracolo economico) في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. في تلك الفترة، شهدت البلاد طفرة صناعية وتجارية هائلة، مما أدى إلى تحقيق فوائض تجارية كبيرة تم تحويلها إلى ذهب بموجب نظام بريتون وودز المالي العالمي آنذاك. ومنذ ذلك الحين، ظل الذهب ركناً أساسياً في السياسة النقدية الإيطالية، رمزاً للقوة الاقتصادية والسيادة الوطنية.
تفاصيل المقترح الحكومي ومبرراته
يسعى المشرعون من حزب “إخوة إيطاليا”، الذي تتزعمه ميلوني، إلى إدراج بند ضمن قانون الميزانية القادم ينص صراحة على أن “احتياطيات الذهب التي يديرها ويحتفظ بها البنك المركزي هي ملك للشعب الإيطالي”. يدافع المؤيدون عن هذه الخطوة باعتبارها مسألة مبدأ وشفافية. وفي هذا السياق، صرح السيناتور لوسيو مالان، وهو شخصية بارزة في الحزب، قائلاً: “نشعر بالحاجة إلى توضيح أن الذهب هو ثمرة عمل شعبنا. لطالما كان هذا الذهب ملكاً لشعب إيطاليا”. ويصر مالان على أن الحكومة لا تنوي بيع أو نقل الاحتياطيات، التي يُخزن نصفها تقريباً في الولايات المتحدة، لكنه يرى أن الاعتراف الرسمي بملكيتها العامة ضروري.
مخاوف المعارضة وتأثيرات محتملة
على الجانب الآخر، أثار هذا التحرك قلق العديد من الاقتصاديين والمحللين، الذين يحذرون من أن هذا التغيير القانوني قد يمنح أي حكومة، حالية أو مستقبلية، صلاحية أسهل لبيع جزء من الذهب. ويخشى هؤلاء من أن يتم اللجوء إلى هذا الخيار لسداد جزء من الدين العام الإيطالي المرتفع، أو لتمويل خدمات اجتماعية مثل الصحة والتعليم. وحذر الخبير الاقتصادي سلفاتوري روسي، المدير العام السابق للبنك المركزي، من أن “التخفيض المنهجي لاحتياطيات الذهب لتخفيف أعباء المالية العامة يُعادل إخبار العالم بأننا وصلنا إلى نقطة نضطر فيها لبيع ذهبنا لعدم وجود موارد أخرى لدينا”. مثل هذه الخطوة قد تؤثر سلباً على ثقة المستثمرين الدوليين في الاقتصاد الإيطالي واستقرار منطقة اليورو ككل، وقد تضعف استقلالية البنك المركزي، وهي أحد أعمدة السياسة النقدية الأوروبية.