تقف أسواق الأسهم العالمية عند مفترق طرق حاسم مع اقتراب نهاية العام، حيث يعيش المستثمرون حالة من التجاذب بين تفاؤل كبير بقرب خفض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الكبرى، ومخاوف متزايدة من حدوث تصحيح سعري حاد، خاصة في قطاع التكنولوجيا الذي شهد ارتفاعات قياسية. وينتظر المتداولون خلال شهر ديسمبر مجموعة من البيانات والإشارات الاقتصادية الهامة التي سترسم ملامح الأسواق في الفترة القادمة، بدءًا من قرارات أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا، مرورًا ببيانات التضخم وأداء الشركات الكبرى.
خلفية تاريخية: معركة البنوك المركزية ضد التضخم
لفهم السياق الحالي، لا بد من العودة إلى العامين الماضيين، حيث شهد الاقتصاد العالمي موجة تضخم هي الأعلى منذ عقود، مدفوعة بتداعيات جائحة كورونا التي أدت إلى اضطراب سلاسل الإمداد، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة للتوترات الجيوسياسية. لمواجهة هذا التحدي، تبنت البنوك المركزية، وعلى رأسها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، سياسة نقدية متشددة، ورفعت أسعار الفائدة بوتيرة سريعة ومتتالية بهدف كبح جماح التضخم عبر تهدئة الطلب وتقليل السيولة في الأسواق. هذه السياسة، رغم نجاحها النسبي في خفض معدلات التضخم، إلا أنها فرضت ضغوطًا كبيرة على النمو الاقتصادي وأدت إلى تراجع أسواق الأسهم خلال عام 2022.
التفاؤل بخفض الفائدة يغذي شهية المخاطرة
انتعشت الأسهم العالمية بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة، مدعومة بقناعة متزايدة بأن دورة التشديد النقدي قد وصلت إلى نهايتها. وتشير التوقعات إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يبدأ في خفض أسعار الفائدة خلال النصف الأول من العام المقبل، وهو ما عزز معنويات المستثمرين ودفع مؤشرات رئيسية مثل “ستاندرد آند بورز 500” لتحقيق مكاسب قوية. تاريخيًا، يُعتبر شهر ديسمبر شهرًا إيجابيًا للأسهم، مما يضيف طبقة أخرى من التفاؤل. وفي أوروبا، تمكن مؤشر “ستوكس 600” من الحفاظ على زخمه الإيجابي، بينما تتزايد التوقعات في بريطانيا بأن بنك إنجلترا قد يتجه نحو خفض الفائدة قريبًا لمواجهة تباطؤ النمو الاقتصادي.
مخاطر التصحيح الحاد وأسهم التكنولوجيا
على الجانب الآخر، تتعالى الأصوات المحذرة من أن هذا التفاؤل قد يكون مبالغًا فيه. ويكمن الخطر الأكبر في التقييمات المرتفعة لأسهم شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، التي قادت موجة الصعود الأخيرة. فقد حذر البنك المركزي الأوروبي صراحة من أن تقييمات بعض الشركات الأمريكية قد تكون “مبالغًا فيها”، وأن “التصحيحات السعرية الحادة” تشكل خطرًا رئيسيًا يهدد استقرار الأسواق. أي تراجع في الإنفاق على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي أو ظهور بيانات أرباح مخيبة للآمال قد يكون شرارة لبدء موجة بيع واسعة. يُضاف إلى ذلك، استمرار حالة عدم اليقين في سوق العملات المشفرة، والذي يُعتبر مؤشرًا على شهية المخاطرة لدى المستثمرين، حيث إن أي انخفاض حاد في هذا السوق قد يمتد تأثيره السلبي إلى أسواق الأسهم التقليدية.
الأهمية والتأثير العالمي
إن قرارات البنوك المركزية بشأن أسعار الفائدة لا تؤثر على الأسواق المحلية فحسب، بل لها تداعيات عالمية واسعة. فخفض الفائدة في الولايات المتحدة يؤدي عادةً إلى إضعاف الدولار الأمريكي، مما يخفف الضغط عن الاقتصادات الناشئة المثقلة بالديون المقومة بالدولار ويعزز أسعار السلع. وعلى العكس، فإن أي تصحيح حاد في وول ستريت سينتقل تأثيره سريعًا إلى البورصات العالمية، نظرًا لترابط الأسواق المالية. لذلك، يراقب المستثمرون حول العالم عن كثب البيانات القادمة، لتقييم ما إذا كان الهبوط السلس للاقتصاد العالمي ممكنًا، أم أن الأسواق مقبلة على فترة من التقلبات الحادة.